كانت ثورة 14 أكتوبر 1963م حدثاً تاريخياً مفصلياً في تاريخ جنوبنا الحبيب، إذ قادت إلى إنهاء الاستعمار البريطاني وتحقيق استقلال الجنوب العربي في 30 نوفمبر 1967م ومع ذلك فإن هذه الثورة لم تكن مجرد انعكاس لتيار عابر أو تابع لحركات أو ثورات أخرى في المنطقة، بل كانت نتاجاً لعقود طويلة من الكفاح الشعبي والنضال الوطني لشعب الجنوب العربي الذي بدأ منذ الثلاثينيات، وأكد على خصوصية هذا النضال واستقلاله عن الحركات الثورية الأخرى في المنطقة، ولا سيما (ثورة 26 سبتمبر) في اليمن.
فمنذ أوائل القرن العشرين، وتحديداً في الثلاثينيات، بدأت بوادر المقاومة الشعبية ضد الوجود الاستعماري البريطاني في الجنوب العربي، وبرزت هذه المقاومة من خلال تحركات شعبية، واحتجاجات نقابية، ومحاولات لتأسيس منظمات سياسية لمناهضة الاستعمار، كانت هذه التحركات تعبيراً عن رفض شعب الجنوب للتواجد البريطاني، الذي فرض نظاماً استعمارياً قاسياً هيمن على الموارد الطبيعية، وأبقى الجنوبيين تحت ظروف معيشية صعبة، وفرض قيوداً سياسية واقتصادية قمعية.
خلال هذه الفترة شهدت مناطق جنوبنا الحبيب حركات مقاومة غير مركزية، بمعنى أنها كانت عفوية وتفتقر إلى التنسيق الوطني الواسع، لكن هذه التحركات شكلت الأساس الذي انطلقت منه المقاومة المسلحة في العقود اللاحقة، كانت النقابات العمالية وحركات المجتمع المدني هي القوة الدافعة في تلك المرحلة، وخاصة في العاصمة عدن، حيث كانت عدن المركز التجاري والإداري للوجود البريطاني.
وفي الخمسينيات شهد الجنوب تطوراً نوعياً في أشكال المقاومة، ومع تصاعد القمع البريطاني والاستغلال الاقتصادي، تأسست العديد من الحركات السياسية السرية التي تبنت الخيار العسكري والنضال المسلح ضد الاستعمار، وكانت تحمل رؤى وطنية واضحة لتحرير الجنوب بشكل كامل من السيطرة الاستعمارية.
هذه التحركات كانت تعتمد على خبرات نضالية طويلة، ولم تكن وليدة لحظة أو نتيجة لتأثير خارجي، ورغم أن الخمسينيات شهدت تأسيس حركات ثورية مماثلة في دول الجوار، إلا أن ثورة 14 أكتوبر تميزت باستقلاليتها الواضحة، حيث نشأت من رحم المعاناة اليومية لشعب الجنوب، الذي عانى طويلاً من الاضطهاد الاستعماري.
في 14 أكتوبر 1963م انطلقت الثورة المسلحة من جبال ردفان، وكانت بمثابة إعلان صريح لانطلاق الكفاح المسلح لتحرير الجنوب بشكل كامل من السيطرة البريطانية، حيث بدأت الثورة في المناطق الجبلية، وكان للمقاومين ميزات جغرافية ساعدتهم في مقاومة قوات الاحتلال، واستمرت المواجهات المسلحة بشكل متواصل، واستطاعت الثورة أن تحقق مكاسب عسكرية وسياسية تدريجية على الأرض، وفي 30 نوفمبر 1967 أعلن عن استقلال الجنوب العربي وانسحاب القوات البريطانية.
وعن خصوصية واستقلالية ثورة 14 أكتوبر، هناك اعتقاد شائع بين البعض بأنها كانت امتداداً أو تابعة (لثورة 26 سبتمبر) في اليمن، إلا أن هذا الاعتقاد يتجاهل العديد من الحقائق التاريخية، فقد كانت ثورة 14 أكتوبر نتاجاً لخصوصية نضالية جنوبية، بدأت قبل فترة طويلة من تحركات ظباط حركة التصحيح في 26 سبتمبر ضد حكم الإمام في اليمن، كما أن الجنوب كان يخضع لحكم استعماري بريطاني مختلف تماماً عن النظام الإمامي المتخلف الذي كانت تعاني منه اليمن.
وبالوقت الذي كانت فيه حركة الضباط الأحرار في صنعاء تهدف إلى الإطاحة بالحكم الإمامي في اليمن كانت ثورة 14 أكتوبر تهدف إلى إنهاء الاستعمار البريطاني واستعادة استقلال الجنوب العربي، ورغم التحديات التي واجهتها ثورة 14 أكتوبر بعد الاستقلال إلا أنهاء ستظل رمزاً للصمود الوطني والمقاومة الشعبية في الجنوبية، وهنا يجب الإشارة إلى أن ثورة الرابع عشر من أكتوبر كانت نتاجاً لعقود من النضال والتضحيات، ولم تكن أبداً مجرد امتداد لحركة أخرى، بل كانت تعبيراً عن إرادة شعب الجنوب العربي العظيم لتحقيق حريته واستقلاله.
وفي الختام نؤكد أن ثورة 14 أكتوبر ليست فقط حدثاً تاريخياً في ذاكرة الجنوب، بل هي قصة كفاح طويلة امتدت لعقود ضد الاستعمار والاضطهاد، حيث تميزت الثورة بخصوصيتها واستقلالها عن الحركات الثورية الأخرى، وخاصة حركة 26 سبتمبر في اليمن، وفي النهاية حققت الثورة هدفها الأسمى بتحرير الجنوب وإعلان الاستقلال، لتظل هذه الثورة مصدر إلهام لنا وللأجيال القادمة، وتأكيداً على أن الكفاح الوطني لا يعرف الحدود ولا يتبع لأي قوة خارجية.