12:08 ص calendar الأحد 14 سبتمبر 2025 الموافق 22 ربيع الأول 1447 بتوقيت عدن
الرئيسية عاجل القائمة البحث

الإيرانيون، منذ الثورة الإسلامية عام 1979، اعتادوا على شرب الكؤوس المسمومة. فمنذ أن قبل آية الله الخميني بوقف الحرب العراقية – الإيرانية بعد ثمانية أعوام دامية دفعت فيها بغداد وطهران أكثر من مليون قتيل والملايين من المصابين، جاءت لحظة أراد الخميني أن يخلّدها بعبارته الشهيرة: “أكثر فتكا من شرب كأس السم”. وعلى ذات النهج، يبدو أن قادة إيران اعتادوا هم أيضا على ارتشاف تلك الكأس المريرة، فها هو علي خامنئي يتجرعها مجددا بعد حرب الاثني عشر يوما أمام إسرائيل.

حزب الله في لبنان لطالما اعتبرته إيران مخلبا قويا وحادا في مشروعها التوسعي. حسن نصرالله، الذي اغتالته إسرائيل، كان يمثل في الذهنية السياسية الإيرانية ما هو أبعد بكثير من صورة قاسم سليماني، القائد العسكري الكبير في الثورة الإسلامية. بل إن نصرالله وحزب الله قد يعلوان في مكانتهما حتى على الحرس الثوري نفسه، باعتبار أن الحزب يجسّد فلسفة الثورة الخمينية بكل عناصرها الثورية والإسلامية. هذا البعد هو ما منح الحزب قيمته العليا على حساب لبنان الدولة.

من خصائص جماعات الإسلام السياسي إنكار الوقائع والتشبث بالأوهام، حتى وإن كانت في نطاق الغيبيات. ففي الجانب السني، يجسد جهيمان العتيبي الصورة الأوضح لهيمنة الغيبيات على عقل الإسلام السياسي؛ فعندما اقتحم الحرم المكي عام 1979، وهو ذات العام الذي نصّب فيه الخميني نفسه وليا على الإمام الغائب في إيران، كانت تلك لحظة صعود النسخة السنيّة التي تجسدت في جهيمان.

المقاربة حول الإنكار هي النقطة التي تلتقي عندها هذه الجماعات وأفكارها؛ فالتعصب يدفعها إلى الإنكار، ولهذا تخسر في كل مرة مواجهة، حتى مع نفسها. وهنا نعود إلى حزب الله، الذي أنكر هزيمته المذلّة في 2006، ثم عاد ليخسر الحرب مرة أخرى وهو يساند حركة حماس بعد هجوم 7 أكتوبر 2023.

في فنّ الإنكار، ابتلع حزب الله اللبناني سكينا حادّة. وحتى وإن حاول أن يُظهر، لما يُفترض أنه حاضنته الشعبية في الجنوب اللبناني، أنه رفض أو امتنع عن تسليم سلاحه للدولة، فإن قبوله بالقرار 1701 كان في جوهره بداية الإقرار الفعلي بالهزيمة. لم تتغير الوقائع بعد ذلك القبول؛ فقد كان واضحا أن الولايات المتحدة، عبر مبعوثتها القوية مورغان أورتاغوس، قررت وضع حدّ نهائي لمفهوم “الدولة داخل الدولة”. كان جليا أن قرارا على مستوى أعلى قد اتُخذ ويجري تنفيذه. ابتلع حزب الله في لبنان السكين ذاتها التي سبق أن ابتلعتها فصائل الحشد الشعبي في العراق.

السلاح المنفلت انتهى زمنه، فقد كانت فكرة غبية جرى تدويرها في العالم العربي. الفصائل الفلسطينية المسلحة كانت منذ البداية فكرة خاطئة، تورطت فيها عدن وبيروت ودمشق وطرابلس الليبية مبكرا. الجميع صدّق الخديعة، إمّا بحسن نية، أو بغباء مفرط، أو بتقديرات خاطئة. والنتيجة واحدة: دول وجدت نفسها تحمي سلاحا خارج نطاقها، وتسمح لقادة الفصائل الفلسطينية بالتدخل في شؤونها الوطنية. وفي المحصلة، سقط مفهوم الدولة الوطنية، وسرقت الجماعات الدينية السيادة.

ابتلاع السكاكين هو الوجه الآخر لشرب كؤوس السم عند الإيرانيين، فلا فرق أن تُهزم وتُذل ثم تُنكر، فالوقائع لا تتغير. الطيران العراقي كان يضرب عمق طهران بالأمس، وها هو الطيران الإسرائيلي اليوم يذهب أبعد من ذلك، إذ بدّد حلم المشروع النووي الإيراني. لم يعرف التاريخ الحديث هزيمة مهينة كتلك التي يتجرعها جيش إيران، وهو يتلقى الصفعات إلى حد أن عناصر الموساد باتوا يتجولون في كل شبر من أراضيها، بل ويطلقون الطائرات المسيّرة من داخل إيران نفسها لتضرب قلب إيران.

لن يُغيِّر واقعَ الهزيمة إنكارُها، فوجودها صار أثقل من أن يُوارى. آن لهذه الجماعات الدينية والطائفية أن تستيقظ، حتى تلك التي تحكم في دمشق وإن استبدلت العمامة بالبدلة. لا مفر من مواجهة الحقيقة والقبول بالوقائع: السلفيون خسروا حربهم الدينية، لم يفز ابن لادن، ولا الزرقاوي، ولا البغدادي. وكذلك خسر الخميني وخامنئي ونصرالله والحوثي، جميعهم حصدوا حصادا مرا واحدا: هزائم خلّفت دمارا وخرابا. والأسوأ من كل ذلك، أنهم جرّوا أوطانا عربية، نسجت حدودها الوطنية بدماء شعوبها وتضحياتها، إلى عتبة الاستعمار الأجنبي ووصايته من جديد.

إنّ أخطر ما في هذه الهزائم أنّها لم تكن عسكرية فحسب، بل كانت حضارية وكيانية، لأنها كرّست ثقافة الوهم بدل ثقافة الدولة. فعلى امتداد أكثر من أربعة عقود، عاشت شعوب المنطقة تحت سطوة شعارات “المقاومة” و”الممانعة”، لتكتشف في النهاية أنها كانت مجرد واجهات فارغة تحجب خلفها شبكات تهريب ومصانع مخدرات وأجهزة قمع لا همّ لها سوى تكريس الولاء للعصابة، لا للوطن.

لقد آن الأوان لكي يقال بوضوح: لا دولة مع السلاح الموازي، ولا سيادة مع ولاءات عابرة للحدود. فحزب الله الذي ابتلع السكين في لبنان، والحوثي الذي يتجرع الهزيمة في اليمن، والحشد الشعبي الذي انكسر في العراق، جميعهم يسيرون في الطريق ذاته… طريق يفضي إلى إعادة الوصاية الأجنبية بأبشع صورها. وإذا كان الاحتلال العسكري يرحل يوما، فإن الاحتلال الطائفي يترك ندوبا غائرة في روح المجتمع والدولة معا.

الهزيمة الكبرى لهذه الجماعات ليست في خسارتها معاركها، بل في انكشاف زيف خطابها أمام شعوبها. فالمجتمعات التي أُغرقت لعقود في شعارات “الموت لأميركا” و”الموت لإسرائيل” صارت ترى بأمّ العين أنّ من مات فعلا هو أبناؤها، وأن الخراب لحق بمدنها، فيما العدو الذي شُتم لعقود يسرح ويمرح في سمائها وحدودها بلا رادع.

ولعلّ المفارقة الأكثر مرارة أنّ هذه الجماعات التي رفعت راية تحرير فلسطين، تحوّلت عمليا إلى خنجر في خاصرة العروبة. فها هي بيروت تُشلّ باسم المقاومة، وصنعاء تُحتل باسم “الولاية”، وبغداد تُنهب تحت شعار “الثأر للحسين”، ودمشق تُباع في سوق النفوذ الإيراني والروسي والأميركي. أي خيانة أعمق من أن تتحول “قضية الأمة” إلى ذريعة لتقويض الأمة نفسها؟

ابتلاع السكاكين لم يعد مجرد استعارة عن هزيمة، بل أصبح قدرا متكررا لهذه الحركات. كلما أنكرت وقع الهزيمة، ازدادت نزيفا، وكلما كابرت على الاعتراف، سقطت أعمق في هاوية الانكسار. هكذا هو حال حزب الله بعد اغتيال نصرالله، وهكذا هو حال إيران بعد أن تلاشى حلمها النووي، وهكذا هو حال الحوثيين وقد استُنزفوا في البحر الأحمر والبر اليمني على السواء.

لن يبقى من هذه الجماعات سوى آثارها الكارثية، تماما كما تبقى رائحة الدخان بعد أن ينطفئ الحريق. أما الشعوب، فهي التي ستدفع الثمن مرّتين: مرة حين تُستعبد باسم الدين والطائفة، ومرة حين تُستباح أوطانها من جديد تحت رايات الوصاية الأجنبية.

ولعلّ الدرس الأهم الذي ينبغي أن يُكتب اليوم بحروف دامغة هو أنّ الوطن أكبر من العمامة واللحية، وأكبر من الميليشيا والسلاح، وأكبر من كل أوهام الطائفية. فلا بقاء إلا للدولة الوطنية، ولا مجد إلا لمشروع السيادة. وكل ما عدا ذلك، ليس سوى كؤوس سمّ تُشرب وسكاكين تُبتلع، في مسرحية عبثية نهايتها واحدة… الهزيمة والانكسار.

 

*عن العرب

تم نسخ الرابط