انبرى أحد كتّاب الرأي في صحيفة الشرق الأوسط بالادعاء، مستنداً إلى جون ويليس أستاذ التاريخ بجامعة كولورادو، في كتابه (تفكيك الشمال والجنوب.. خرائط للذاكرة اليمنية)، بالقول "إن الجنوب لم يكن كتلة سياسية، بل فضاء من الشبكات المحلية والولاءات والمراكز المتعددة" ولهذا يرى الكاتب السعودي بأن "محاولة السيطرة على حضرموت اصطدام مع تاريخ لا يقبل الهيمنة المفاجئة.. الخ"!!
ويبدو أن الكاتب العربي الجار والقريب جداً من التاريخ والجغرافيا، الذي علّق استنتاجه على جملتين انتزعها عنوة من كتاب جون ويليس. قد فاتته، بقصد أو دون قصد، حقائق التاريخ حول نشوء الدول الحديثة في العالم وفي الشرق الأوسط.
فالتاريخ الإنساني، من الجزيرة العربية إلى قارات العالم، لم يعرف في بداياته دولًا قومية مكتملة ولا هويات وطنية جاهزة؛ إذ لم تتشكّل هذه الكيانات إلا لاحقًا، وعلى أنقاض إمبراطوريات وممالك كبرى، أو عبر تَحوُّل كيانات ما قبل الدولة ومراكز متعدّدة إلى وحدات سياسية، نشأت وتبلورت دولها عبر مراحل زمنية متباينة وبمسارات تاريخية مختلفة.
نشأت دولة الجنوب بعد نيل الاستقلال في ستينات القرن الماضي شأنها شأن دول عربية، قبلها وبعدها. مرت بظروف داخلية صعبة مثلما مرت دول كثيرة في المنطقة وما تزال، وهناك شواهد حديثة من سوريا إلى العراق إلى ليبيا… إلخ.
توحّدت امارات وسلطنات ومشيخات الجنوب العربي تماماً مثلما توحدت مناطق وأجزاء ومراكز محلية عند قيام دول مختلفة في العالم (من بينها المملكة الشقيقة)، وتم استكمال ترسيم الحدود بين كثير من الدول تدريجيا خلال سنين أو عقود من الزمن، ولم يخلق الله دولة بكتلة واحدة و بحدود منزّلة، لا في الشرق ولا في الغرب.
أين المشكلة؟ وما غرض اذن الاستعراض المبتور الذي قدمه الكاتب السعودي في مستهل مقال إعلامي خدمة للحظة السياسية، وتساوقاً مع أجندات وتفسيرات لا تخدم الموقف المتوازن للمملكة؟
يقول المبعوث الأمريكي توم براك، في استعراض لغوي أكثر منه تحليل؛ إن الشرق الأوسط قبائل وقرى، وإن الدول القومية أنشأتها اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 من خلال تقسيم إرث الإمبراطورية العثمانية. وهي عبارات للتوظيف السياسي، لكنها لا تستنقص شرعية الدول، بل سياق تشكّلها، مع أن هناك دولاً تاريخية لم تنشأ من خلال تلك المعاهدة.
الجنوب كان لقرون عديدة سلطنات وأمارات ومشيخات ولم تؤلفه سايكس بيكو أو تهندس جغرافيته على الورق معاهدة في سياق لعبة الأمم، بل أن كياناته الداخلية تلك توحدت عشية الاستقلال بإرادات داخلية مجتمعة دون تمايز، وحضرموت هي الفضاء الحيوي منذ عمق التاريخ.
ارتكبت قيادات الجنوب عام 1990 خطأً تاريخياً تمثّل في اتخاذ قرار متسرّع بالذهاب نحو وحدة اندماجية بين دولتين مستقلتين، لم تكونا مقاطعتين ولا كيانات ما قبل الدولة أو دونها، بل دولتين قائمتين بكامل مقوّمات السيادة. ولم تكن هذه التجربة استثناءً في التاريخ، إذ شهد العالم نماذج مختلفة السياقات والنتائج.
لذلك، لا يجوز اختزال التاريخ عند تلك اللحظة أو البناء عليها في مقاربات ومواقف تُفصَّل وفق مصالح خارجية أو حسابات تيارات عقائدية، لأنّ المسألة في جوهرها تتعلّق بدماء شعب ما تزال تنزف، ولن تتوقّف حتى تتحقّق تطلّعاته المشروعة.
الجنوبيون، في وعيهم الجمعي، يكنّون للسعودية احتراماً عميقاً، وحرصاً شديداً على بقاء علاقات قوية مستمرة، ويدركون أهمية المملكة، وهناك مصالح حيوية لا تخطئها السياسة ولا الجغرافيا. لكن هذا لا علاقة له بنقد أقلام تتعدى حدود اللياقة و تستهدف طرف لصالح طرف آخر. هنا تصبح مسألة الدفاع عن الحقيقة مهمة للغاية لكي لا توظف الكلمة كخنجر بيد القوى المعادية لتطلعات أبناء الجنوب.